الأربعاء، 24 فبراير 2010

دخل اليكساندر الدولاب .. وشنق نفسه

::


لاأتوقع في الحقيقة أن أحد منكم قد صادف خبر أن هناك شخص في مكان ما يُسمى أليكساندر قد دخل الدولاب (خزانة الملابس) وشنق نفسه فيه. وحتى لو صادفه ، لاأتوقع أن هذا خبر يثير بالضرورة الإنتباه إن كان ضمن السيول العارمة للمعلومات التي تفيض بها وسائل الإعلام - إذا استثنينا منها هذا البلوغ - على الأقل للبعض إن لم يكن للغالبية منّا ، وإن اكتنفت ظروف هذا الحدث صبغة من الغرابة والغموض. فهناك آلاف الأرواح التي تُزهق يومياً في شتى الظروف من خلال الحوادث والجرائم والأمراض وغيرها ، والإنتحار ماهو إلاّ أحد عواملها. ولكني مع ذلك ، وجدت نفسي في حيرة عندما قرأت الخبر ، ليس فيما يختص بظروف الحدث نفسه أو المنهج المستخدم ، إنما في الإسباب التي دفعت هذا الرجل إلى إخماد أنفاسه بنفسه إذا عرفنا من هو اليكساندر هذا.

هو اليكساندر ماكوين Alexander McQueen ، أحد أشهر مصممي الأزياء البريطانيين والذي اكتسب شهرة دوى صداها دولياً وتوّجتها عدة جوائز حصل عليها تقديراً لموهبة قلما تجد لها نظير (هذا مايُعرف عنه وليس رأي منّي ، إذ أن خبرتي الطويلة في عالم الأزياء والتي لم تخرج عن نطاق التيشيرت والجينز ربما لاتؤهلني للحكم على أو حتى فهم ماترتديه هذه الكيانات الكربونية - البشر - التي تنتمي إلى مايسمونها بالمجتمعات المخملية - أنظر إلى الصور). وقد عُثر على جثته معلقة بحبل داخل دولاب كبير للملابس في شقته في لندن. وسبب إستخدامه للدولاب لشنق نفسه هو تواجد قصبة بداخله أمكنته من تعليق الحبل حولها. أعتقد بأن غرابة ملابسات إنتحاره قد تبددت هنا ، نأتي الآن إلى أسباب حيرتي ..

ماأثار حيرتي هو هذا:

اليكساندر ماكوين قد ارتقى سلم المجد والشهرة في مجاله حتى وصل إلى قمته ، وكدّس ثروة تقدر بثلاثين مليون دولار في طريقه إليها ، سكنه يقع في أحد أرغب وأغلى البقاع على وجه الأرض ومعارضه تنتشر في بؤرات دنيا الشمبانيا والكافيار حول العالم. اليكساندر كان يتمتع بصحة جيدة ولم يتخطى منتصف العمر بعد ، فلماذا أنتحر ؟؟؟

ليست هناك حاجة لتنبيهي بأن الحالة النفسية ، إذا وصلت إلى الحافّة في تدهورها ، لن يمنعها من الإنزلاق والإنحدار في هاويتها حتى مخيلة صور الأوغاد الزبانية وهي تلوح بأسياخ الباربيكيو الحامية ، تنتظر في جهنم لتغرزها بأمر الآلهة السايكوباثية السادية ، في مؤخرة من خانته قدرته الواهية ، على مواجهة شجون الحياة القاسية ، وشويه على حمم البراكين السرمدية الكاوية ، إن كان المنتحر متدين ، ولن يمنعها كذلك فكرة الإندثار الأزلي إن كان ملحد ، فأنا أدرك كل هذا وهاقد استعرضته لكم هنا بكامل بهاراته السجعية. ولكن بالرغم من ذلك السيناريو السابق المخبول والإحتمال اللاحق المعقول هل يوجد هناك عامل ما على درجة أكبر من الفعالية بحيث ينجح في منع الإنتحار تحت أي ظروف نفسية ، مهما كانت قاسية ؟

بإعتقادي أن هذا العامل موجود ، ولاأستطيع إسناد هذا الإعتقاد إلى أي بحث أو دراسة مررت بها إنما هو نتاج قناعة شخصية وصلت إليها بعد إستيعابٍ وافٍ - وليس بالضرورة إستيعاب كامل - لفكرة الفناء بعد الموت قبل عدة سنوات. فما تشير إليه إحصائيات الإنتحار - التي رأيتها أنا - هو عدم وجود علاقة بين درجة الإيمان أو الإلحاد ونسبة الإنتحار والدراسات في هذا الموضوع يبدو أنها متضاربة ولذلك فلن ألجأ إليها وسوف أقتصر في هذا المقال على الأفكار التي راودتني بعد قرائتي لخبر إنتحار اليكساندر.

لايوجد برأيي ماهو أشد وأهول وقعاً على النفس من الإستيعاب الـوافـي لفكرة الفناء بعد الموت. فكرة أن حياتك هذه وحياة أهلك وأحبائك وأصدقائك كلهم سوف تنتهي وتـفـنـى بعد الموت ، وأنه لن يكن هناك بعث لك أو لهم أو إجتماع معهم تحت أي ظرف أو في أي عالم آخر غير هذه الدنيا الموجودة هنا. وحتى يمكن هضم هذه الفكرة ، لابد أن تكون درجة إستيعابها كـافـيـة ـ وهذه هي الكلمة السحرية التي قصدتها بعبارة: "عامل أكثر فعالية" في الفقرة أعلاه ، وهو ليس بالأمر الهيّن ، صدقوني. فيبدو أن هناك صعوبة في التعمق في التفكير بهذه النهاية وكأن العقل يقاوم هذه الفكرة ويتجنب أي محاولة للتوغل فيها ، ولكن من استطاع أن يهضم أبعاد هذا المصير فسوف يرى الحياة ، بعد أن يفيق من الصدمة المروعة ، بنظرة تختلف جذرياً عن أي منظور سابق مهما كان مداه. فالحياة بعدها ، بمكوناتها الزمنية والحدوثية - أي من وقت وأحداث - تكتسب فجأةً قيمة لايمكن تخيل حجمها وتصبح مصدر نادر يتوجب التقنين فيه حتى لايُعجل في إستنفاذه.

فالخواطر التي كانت تراودني بعد سماعي لخبر إنتحار هذا الإنسان الذي كان ناجحاً بكل المعايير الدنيوية هو : هل كان يُدرك القيمة الحقيقية للحياة ؟ ولكن لايمكن بأي حال من الأحوال أن يكون على إدراك وافي لها مالم يكن غير مؤمن بأي من مفاهيم البعث بعد الموت وهي متعددة بتعدد أغلب الأديان. فهل كان اليكساندر مؤمن ؟

لم يستسرغ مني الوقت إلاّ ثوانِ معدودة في بحث الغوغل حتى جائتني الإجابة تحدق فيني من خلف إنعكاسات شاشة المونيتر: الـيكسـانـدر كـان مـتديـناً. أرجوا عدم سوء فهمي ، فأنا لاأعمم بأن المؤمنين معرضين للإنهيار النفسي والإنتحار أو أن الملحدين بمأمنِ منه ، ولكني أقول ، وهذا نابع من الإستدلالات المنطقية عن قيمة هذه الحياة فيما لو لم تكن هناك حياة غيرها ، بأن الإسـتيعـاب الـوافـي لمصير البشر ، وهو الفناء ، يمد الإنسان بأصدق ميزان لتثمين الأهمية الحقيقية للحياة لايمكن تحقيقه إلاّ من خلال منظور إلحادي. فالملحد الواعي المدرك لمصيره الفاني المحتوم هو أكثر تشبثاً بحياته من أي شخص آخر يحمل أبهت بصيص من الأمل في تواجد حياة أخرى بعد الموت ، بصرف النظر عما يعتقد عن مصيره فيها. وعليه ، فالملحد الواعي المدرك لمصيره الفاني هو أقل تعرضاً للإنتحار من أي مؤمن ينتمي إلى أي دين تتضمن فيه مفاهيم البعث بعد الموت.

هل كان اليكساندر ماكوين لينتحر لو كان ملحداً ؟
برأيي أن الإحتمال الأرجح هو : لا.

هناك 4 تعليقات:

غير معرف يقول...

مقال جميل

ولكني اختلف معك في ان الملحد اقل عرضة للانتحار

انا لا اعتقد ان مسالة الانتحار متربطة مباشرة بالاديان والخلود في حياة اخرى

مثلا في البوذية الحياة عبارة عن معاناه لا متناهية لا تنتهي بالموت لانك تعود اليها بانبعاث جديد ولا يمكن الهروب وكسر دورة الحياة منها الا بالوصول الى حالة النيرفانا

وهو العكس تماما لشهوة البطون والفروج والخلود الابدي في جنة الملل

انا اعتقد ان الانسان يعيش حسب نظرته للحياه
فاذا كانت نظرة الفنان او مصمم الازياء تتعلق فقط بالابداع
فسوف يصل الى مرحلة قد يعتقد فيها ان حياته ليست لها قيمة لانه لم يعد منتجا ومساهما فيها
وقد تحدث في اي لحظة بغض النظر عن مدى نجاحه الذي يراه الاخرون

اذا لم يجد عالم مثل
Ludwig Boltzmann
(لا اعتقد انه عاش متدينا)
التقدير بل الالصراع الدائم مع المجتمع العلمي فمن الطبيعي ان يدفعه ذلك للانتحار


تحياتي لك

basees@bloggspot.com يقول...

أهلاً بك عزيزي Moral

أنا معك بأنه لايوجد هناك إرتباط واضح بين الإنتحار والإيمان ، على الأقل من الدراسات التي رأيتها أنا وقد تكون هناك بحوث أخرى لم أراها ، وهذا ماذكرته في المقال. إنما رأيي ينطلق من إعتقاد شخصي بإحتمال وجود علاقة، ليس إلاّ. هذا الإعتقاد نابع كما ذكرت من الإستدلالات المنطقية بأن من أدرك حتمية فنائه سوف يعطي الحياة أهمية أكبر ممن يؤمن بأنها مجرد ممر إلى حياة أفضل. كما أنه مدعم بتجربة شخصية لم أذكرها في المقال للإختصار وهي أنني أعرف صديقة لي حاولت الإنتحار مرتان في السابق كادت أن تموت في المرة الثانية وكانت حينها متدينة تؤدي جميع واجباتها. ولكنها ألحدت بعدها ، وبالرغم من أنها لاتزال تعاني من نفس المشاكل التي أقدمت على الإنتحار بسببها إلاّ أن هذه الفكرة قد تبخرت من ذهنها عندما أدركت أن هذه الحياة ، بحلوها ومرها ، هي الموجود ولايوجد غيرها.

لن يفصل في هذا الموضوع إلاّ دراسات علمية معتمدة لاأدري إن كانت موجودة. إلى أن يتضح الأمر يبقى الموضوع مجرد تخمين.

وتقبل تحياتي

Duo يقول...

تحليل جيد ..
وأفهم تحديدا ما تقصده بالاستيعاب الوافي لفكرة الفناء بعد الموت , لكني أرى أن هذا الاستيعاب قد يشوبه شيء من العدمية أو العبثية عند بعض الملحدين , فعندما تقسو عليه الحياة فإنه قد يعجل بإنهاء حياته لجزعه عن تحمل الآلام ولعلمه الأكيد أنه لن يعذب بعد موته , بل لن يكون موجودا أصلا , وهذا قد يعطي بعض الملحدين راحة نفسية إن رأى أن الفناء التام أهون من حياة قاسية.
شخصيا , لا أتخيل أني سأعرض نفسي للفناء يوما ما وإن فعلت بي الدنيا ما فعلت , ورغم ذلك لا أجزم بأني لن أفعلها حقا لو تعرضت لقسوة الحياة.
تحياتي لك ..

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي طالب ،،

من الممكن أن تتدهور الحالة النفسية للإنسان، سواء كان مؤمن أو ملحد، إلى درجة من اليأس لتدفعه لأن يقرر التخلص من معاناته حتى ولو بقتل نفسه. ولكني لاأزال أشعر بأن في أغلب الحالات، ومهما بلغت معاناة الإنسان، ففكرة إنهاء حياته إذا كان يدرك بشكل وافي مفهوم الفناء، لن تكن فكرة الموت بغيضة فحسب بل عبثية أيضاً لأن الموت ليس بعلاج يُشعر الإنسان بعد تناوله براحة، إنما هو نهاية أبدية له، بكل ماتحمل الكلمة من معنى.

لك تحياتي