الخميس، 4 نوفمبر 2010

إطلالة على خلق الكون

::

في ساعة ما، في أحد أيام الخريف الباردة من أوائل شهر نوفمبر الحالي، حين تطرح الأشجار ردائها الأخضر الزاهي وتتعرى للشتاء، وتنفش الطيور ريشها لتحتمي من قسوة البرد بين غصونها الجرداء، وتقصر ساعات النهار وتطول ظلمة المساء، سوف يتزاحم جمع من أنبغ العلماء، حول شاشات كمبيوتراتهم في غرفة المراقبة الدافئة في سيرن CERN  ليحدّقوا فيها بعيون جاحظة وأفواه مفتوحة وهم يتطلعون بلهف وترقب مُلِحْ إلى أمل النيل بلمحة خاطفة تومض على شاشاتهم وتكشف لهم أسرار اللحظات الأولية من خلق الكون.

وكيف سيتمكن هؤلاء العلماء من رؤية عملية الخلق الغيبية كما كانت تجري على قدم وساق؟
هل سوف تأتيتهم مخلوقات نورانية مجنحة بفيديو كليب عن تلك اللحظات الإبتدائية للخلق؟  

لو تفضلت تلك المخلوقات الماورائية، ولو سُمح لها بإحضار نسخة مرئية، تكشف خطوات تلك العملية الغيبية، لسهُلت مهمة العلماء في معرفة ماحدث في تلك اللحظات الخلقية، ولكن علماء الإنسانية الأجلاء لم يعتمدوا ولن يعتمدوا قط على الماورائيات في حل معضلات الوجود وكشف أسرار الكون، فقد صنعوا بأيديهم مايُمكنهم من سبر أغوار الوجود وفك رموزه، إذ تجري التحضيرات هذه الأيام في غرف عمليات المصادم الهدروني الكبير التابع لسيرن - المنظمة الأوربية للأبحاث النووية - لإطلاق حزم إشعاعية من أيونات عنصر الرصاص لترتطم ببعضها في المصادم وتعيد بشكل مصغر لحظة الإنفجار العظيم الذي خلق الكون.

هذه الخطوة من مراحل عمل المصادم الهدروني سوف تُمكّن العلماء من معرفة الحالة التي كانت المادة عليها في تلك اللحظات القصيرة التي أعقبت الإنفجار الكبير  Big Bang. وكما وعدتكم في بوستات سابقة، سوف أتابع التطورات الهامة لهذه التجارب الجلل التي يقوم بها العلماء في المصادم الهدروني الكبير وأنشرها لكم هنا.

منذ أن بدأ العمل في المصادم الهدروني، كانت الإرتطامات الإبتدائية فيه تنحصر على البروتونات فقط (وهي إحدى مكونات نواة الذرة)، ولكن التجارب قد وصلت الآن إلى مراحل متقدمة تخول العلماء فيها من إنجاز أحد أهم أهدافه وهو الإطلال على تلك اللحظات التي أعقبت الإنفجار الكبير، ولتحقيق هذا الهدف يتحتم إستخدام ذرات الرصاص الثقيلة في التصادم بدلاً من البروتونات. وسوف تستمر هذه التجارب لأربعة أسابيع إبتداءً من أوائل شهر نوفمبر القادم.

ولمن لايعرف الكثير عن المصادم الهدروني الكبير فهو باختصار عبارة عن أنبوبة دائرية ضخمة مبنية في نفق تحت الأرض بين حدود فرنسا وسويسرا يبغ طولها 27 كيلومتر تطلق فيها أشعاعات نووية في إتجاهات معاكسة لتصطم ببعضها وتُدرس بعد ذلك نتائجها. ويحتوي ذلك النفق الطويل على أربعة غرف للتجارب وتصوير الإرتطامات، وتلك الغرف موزعة على طول النفق وكل غرفة منها لها دور محدد لدراسة جانب مختلف من طبيعة الإرتطامات. وأحد تلك الغرف وأسمها أليس ALICE قد صُممت خصيصاً لدراسة إرتطامات أيونات الرصاص (والأيونات هي ذرات تحمل شحنة كهربائية) والتي سوف تكشف لنا أحد أسرار الإنفجار الكبير.

يقول جيمس جيليس، الناطق الرسمي لسيرن، أن تلك التجربة المرتقبة سوف تزودهم بعلومات عن الحالة التي كان عليها الكون في اللحظات القصيرة المباشرة بعد ظهوره قبل 13.7 بليون سنة، إذ أنها سوف تمكنهم من النظر إلى الكون خلال تلك البرهة التي أعقبت ظهوره كنقطة من الطاقة متناهية في الصغر، والتي أدى تضخمها فيما بعد إلى تشكّل الكون الهائل الذي نراه الآن. إذ يعتقد العلماء أن في تلك اللحظة المبكرة في تشكيل الكون، كانت تتواجد حالة خاصة للمادة تختلف عن جميع حالاتها التي نعرفها اليوم عنها يطلق عليها أسم: كوارك غلوون بلازما Quark-Gluon Plasma وهي الحالة التي يمكن الوصول إليها من خلال التجربة إذا تمكن العلماء من صهر أيونات الرصاص، وهو ماسوف يحدث عند التصادم.

فإذا استطاع العلماء أن يخلقوا هذه الحالة من المادة في المصادم، سوف يتمكنوا من دراستها وبالتالي معرفة كيف تطورت وكيف أدى تطورها إلى وجود المادة التي يتكون الكون والبشر وباقي الكائنات الحية منها. أو بعبارة أخرى، سوف يتمكن العلماء من دراسة الخلق ذاته بأدق تفاصيله.

ولتحقيق هذا الإنصهار، سوف ترفع الإصطدامات درجة حرارة أيونات الرصاص المتراطمة إلى عشرة تريليون درجة مئوية، تحدث في غضون واحد من ترليون ترليون جزء من الثانية ...

بذمتكم ... أليس هذا إنجاز بشري حضاري مذهل؟
يضاهي حتى إكتشاف فوائد بول البعير في حضارتنا؟


توجد بوستات كثيرة سابقة تتناول تطورات التجارب في المصادم الهدروني الكبير تجدونها هنا وهنا وهنا وهنا وهنا وهنا
والصورة أعلاه تمثل سيميوليشن على الكمبيوتر لارتطام أيونات الرصاص في المصادم الهدروني.

هناك 16 تعليقًا:

غير معرف يقول...

شكرا على الموضوع ..
الاهم هو ان لا يقف العقل البشري عند حدود معينة كما يريد لنا المؤمنون بالاديان حيث يدعون ان الاشياء كلها يجب ان تصل الى الله وتقف لان هذا هو خارج نطاق العقل البشري .. هذا الكلام طبعا سخيف جدا لانهم لم يقدموا لنا اي دليل على ذلك .. يقول عالم الفيزياء ستيفن هوكنج يجب ان نطرح السؤال بصيغة (لماذا) وليس (كيف) .. عندما نعلم ان الكون يتصرف هكذا يجب ان نسأل لماذا يتصرف هكذا .. عندما تقول لي يوجد اله علينا ان نسأل لماذا موجود هذا الاله، هكذا اسئلة محرمة طبعا عند المتدينين ... اما هؤلاء العلماء فهم احرار في تفكيرهم ولا توقفهم مقدسات سخيفة .. تحياتي

MSMO يقول...

لهذا السبب أحبك وأحب مدونتك :))

لقد كانت هذه التجربة هي سبب وصولي لمدونتك لأني كنت أريد الحديث عنها لكن عندما وجدت حديثك عنها ومتابعتك وتحديثك للموضوع أول بأول لم استطع أن اكتب فيها حرف وتركتها مع مواضيع قد اتحدث عنها في المستقبل الذي لا يريد أن يأتي

تمنياتي لك بمزيد من التقدم ولإمام دائما
وانتظر هذا الحدث الجليل وحديثك الشيق عنه
تحياتي لك :))

Godless يقول...

هنيئا لهم متعة الاستكشاف في أثمن تجربة في تاريخنا البشري. الاف من الفيزيائيين والمهندسين المحظوظين سنحت لهم الفرصة للاشتراك في هذا الحدث العظيم. عندما يسألني احد المتدينين ماهدفك في الحياة؟ يحزنني انهم لا يرون هذا الهدف الذي تسعى له كل البشرية ولكنهم سلكو الطريق الاقصر بنسب كل غامض ومثير لالهتهم وتفسير الكون و سببه بأسخف التفسيرات وهم راضين به.


الجميل في العلم انه حتى لو لم يكتشف وجود هذه المواد بعد الانتهاء من التجربة فان هذا يعتبر تقدم في حد ذاته. اثبات نفسك خطأ يعطيك نقاط في العلم. على عكس أي قطاع في الثقافة البشرية.

غير معرف يقول...

تعتبر هده التجربة طريق لفهم كيف كان الكون في بدايته وليس فهمه كله لان ذالك يتطلب طاقة هائلة يستحيل للبشرية الوصول ليها لالا ادا تمكن من صنع مسرع قطره قطر مجرتنا درب التبانة وليس محيطه 27 كلم والدي لا تتجاوز طاقته 14tev

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي نزار ،،

لقد أوضحت بسلاسة الفرق بين المنهجية العلمية في التفكير والمنهجية التسليمية التي يتبعها للأسف أغلب المتدينون. إذ لايجب على الإنسان أن يستبدل الأسلوب التجريبي العلمي في بحثه عن الحقيقة بما تمليه عليه الثقافات الموروثة. وإذا كان هناك تعارض بين المنهجين فالأسلوب العلمي يفوز دائماً لأنه الأضمن، فهو الذي دفع بعجلة التقدم الحضاري وأرتقى بنا إلى مستويات شاهقة من العلم والمعرفة، وليس أسلوب التسليم.

ولك تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي MSMO ،،

حبتك العافية ياعزيزي وشكراً على كلماتك اللطيفة.

لدي شغف جامح، كما هو عندك وعند الكثير غيرنا، لمعرفة أصل الوجود وكيفية ظهوره، ومنه كيفية ظهورنا نحن كبشر. وطبعاً كانت هناك محاولات كثيرة عبر التاريخ لسد هذه الحاجة بدون نجاح، ولكن التقدم العلمي الذي وصلنا إليه الآن قد هيأ لنا فرصة رائعة لمعرفة أخيراً من أين أتى الوجود وكيف أتى ومنه من أين أتينا نحن. وهذا مايحثني على متابعة تطور تلك التجارب وتدوينها هنا أول بأول للمشاركة فيها.

وأشاركك الشعور بالإنتظار والترقب لما سوف تكشفه لنا تلك التجارب الرائدة، وأرجو ألاّ تخيب النتائج الآمال بعد كل هذا التحضير والإنتظار.

ولك تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي Godless ،،

وأضيف إلى ماتفضلت به أنه بالرغم من أن القائمين والممولين لهذه التجربة وتجارب كثيرة أخرى مثلها هم من الغرب طبعاً كما تعرف، إنما الفوائد المعرفية والتطبيقية التي سوف تنتج عن كل تلك التجارب والبحوث سوف تعم البشرية جمعاء، من ضمنها المجموعات التي تتبع ثقافة الإقصاء والعزل والمحاربة لمن يخالفها العقيدة والذين هم نفس البشر الذين أتوا لهم بتلك الفوائد.

ولك تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي غير معرف ،،

كلامك سليم، فهذه التجربة لاتحاول معرفة الكون بأكمله، ولكن في وهلة معينة من بعد ظهوره. وتحقيق تلك المعرفة سوف يضيف إلى علومنا عن نشأة الكون وطبيعة المادة، وربما يجيب عن أهم الأسألة: وهو كيف أتى الوجود ومنه الحياة.

ولك تحياتي

rawndy يقول...

شيخ بصيص

بس التجارب هذي راح تخلي حقين بول البعارين والرضاعة ياكلون هوى

شلون يدارون على خيبتهم التاريخية؟؟؟

هيئة كبار المرضعين المستجمرين السعوديين وشلة زغلول النجار تهقاهم ينصابون بجلطة؟؟؟ أو ما يعبرون الشغلة؟؟

محمد سعد القويري يقول...

الأخ الفاضل :: Basees ::
أسعد الله أوقاتك بكل خير
جميلة هذه الإطلالة :)
العلم وعقل الإنسان ليس لهما حدود ،،)
وجميلة هي الرحلة في الكشف عن الحقيقة

دمت بود

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي راوندي ،،

شلة المرضعين وزغلول النجار ماراح ينصابون بجلطة، الخوف أنهم يصيبون غيرهم بجلطة، إذا مو من القهر من الضحك عليهم، تدري ليش؟

لأنهم راح يلطشون إستكشافات المصادم ويعزونها لهم، إنها موجودة عندهم في كتبهم من عشرات القرون.

أنطر وشوف ..
ولك تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي أحمد القويري ،،

أهلاً ومرحباً بك، تسميتك لهذه التجربة بـ "الرحلة" تسمية دقيقة ومعبرة، لأنها فعلاً رحلة إلى الماضي السحيق عندما كان الكون في بدايته. وهي جميلة حقاً في منظرها وفي علومها وفي فائدتها.

لك تحياتي

Um il sa3af wil leef يقول...

بصراحه موضوع رووووعه ، شكرا بصبص

وبصراحه ضحكتني بهالتساؤل

بذمتكم ... أليس هذا إنجاز بشري حضاري مذهل؟يضاهي حتى إكتشاف فوائد بول البعير في حضارتنا؟

شكرا مره أخرى
:)

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزتي أم السعف والليف ،،

من المحزن أن نرى مدى خيبة شعوبنا عندما تقارن بإنجازات الشعوب الأخرى، ولكننا لانملك إلاّ أن نضحك عندما نراهم ينشرون خيبتهم تلك للعالم كمفخرة بدلاً من إخفائها والتستر عليها.

أسعدني إعجابك اللموضوع ياعزيزتي ..
ولك تحياتي

YusuF.AsKR يقول...

(:
عزيزي بصيص

شكرا لهذا المجهود الرائع والمثمر في متابعة مجريات وأحداث هذه التجارب العملاقه والنادرة التي يقوم بها هؤلاء العلماء .

أخلص التحايا القلبيه لـ إلك

(:

متابع مستمر

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي أبوغرايم ،،

هذه التجارب تمثل ذروة في الإنجازات البشرية ونموذج ساطع لما يستطيع عقل الإنسان تحقيقه، وتستحق لذلك كل ذرة من جهدي وكل ثانية من وقتي، وأنا سعيد جداً بمشاركتي معكم لتطورات هذه التجارب الرائدة.

ومني لـ إلك أعطر التحيات