الاثنين، 4 يونيو 2012

خنجربه

::


كلما سمعت مؤمن يتلفظ بهذه الكلمة، كتمت ضحكتي لإدراكي بأن كلمته تلك تقوض بشدة إيمانه الديني، بدون إدراكه لما يتضمن تعبيره من معنى.

فـ "خنجربه"، بمعنى: خلينا نجرب هذا الشيئ، هي كلمة أو عبارة نتلفظها كلنا بعفوية تامة كلما أردنا اقتناء أو استهلاك شيئ من المستلزمات الجديدة، سواء كانت من الأطعمة أو الكماليات.

فإذا أردنا أن نشتري جاكيت مثلاً، فسوف نرتديه أولاً قبل نشتريه لنرى إذا كان يناسب ذوقنا أو يلائم مقاسنا، ونطبق نفس مبدأ التجربة هذا على الأطعمة الغريبة علينا أيضاً بواسطة تذوق قطع صغيرة منها قبل تناول ما على الطبق.

وهذا الأسلوب المتردد المؤقت في اختبار الأطعمة والمواد قبل استهلاكها، هو أسلوب حكيم وحصيف، وربما فطري، تطور لدى البشر خلال أجيال امتدت إلى ماضيهم السحيق ليقيهم مغبة التورط في مواد ولوازم وأطعمة ربما تسبب لهم أضرار جسيمة.

وهو أسلوب لاينحصر على المواد فقط، بل يمتد إلى الأفكار والسلوكيات والمنظومات السياسية والإجتماعية أيضاً. فالكثير من المفكرين والكتاب يشيرون إلى العملية الديموقراطية مثلاً بلقب "التجربة الديموقراطية" إذا كانت تطبق لأول مرة في المجتمع، لأنهم لايعرفون ماإذا كانت ستنجح أم ستسقط في ذلك المجتمع المستهدف.

فلنتعمق أذاً ببعض تفاصيل هذا الأسلوب الحصيف حتى تتضح الصورة أكثر.

الهدف من إرتداء الجاكيت أو تذوق قطعة صغيرة من الأكل قبل الشراء أو الإلتهام، هو للحصول على معلومات وافية عنها تمكننا من تقييم صلاحية تلك المواد لنا قبل التورط فيها. فلكي نتوصل إلى قرار ماإذا كان الجاكيت أو الطبق صالح، نخضعه لـ الـــتـــجـــربـــة. وهذا المنهج التجريبي هو أفضل أسلوب يمكننا من خلاله اكتساب معلومات عن المواد المعتزم إستهلاكها، ولذلك نستخدمه بعفوية تامة حتى في حياتنا اليومية.

والمعلومات التي نحصل عليها من خلال التجارب تصنف بدورها في درجات تصاعدية تعكس مستوى دقتها وصحتها، فكلما ارتفعت قوة التجربة كلما أشتدت صلابة المعلومات عنها. فمثلاً، لو أردنا التمييز مابين صخرتين متشابهتين أحدهما بركانية والأخرى رملية، فأول فحص نستطيع إجرائه عليهما هو بالمشاهدة. فمن الممكن أن نتعرف على مصدرهما من خلال معاينتهما بالعين المجردة بالتمعن بهما، وهذا أخفض مستوى للفحص. فإذا أردنا أن نرفع درجة ثقتنا بحقيقة مكوناتهما وأصلها، فيتحتم علينا أن نضعهما تحت المجهر لكي نتأكد من التركيبات الكريستالية لكل منهما. وربما نريد أن نتحقق أكثر بإخضاعهما إلى فحوصات كيميائية أيضاً أو لأساليب أخرى أشمل وأدق.

فسوف نحصل إذاً من خلال الفحص، سواءً بالمشاهدة أو التجربة، على معلومات عن الأشياء المفحوصة، تتدرج في مستوى دقتها وثقتنا بصحتها.

فعندما يقول المؤمن بعفوية تامة أنه يعتزم تجربة هذا الجاكيت أو ذاك الطبق، أضحك لأن نيته في التجربة تقوض، كما ذكرت، إيمانه بجميع الماورائيات التي يؤمن بها بتسليم مطلق. لأن الماورائيات بكياناتها المعزولة عن العالم المحسوس لاتخضع للتجربة ... مالم تتفاعل مع عالمنا، فإن تفاعلت معنا، أخضعت نفسها في هذه الحالة للتجربة. وحين تخضع نفسها للتجربة، فحينذاك، وحينذاك فقط، سنكتسب معلومات تمكننا من تصنيف مستوى ثقتنا بوجودها. 

ولكنها ككيانات يُزعم أنها منفصلة ومعزولة عن العالم المحسوس وبمنئى عن الفحص والتمحيص، فلابد أنها ستندرج تحت أخفض مستوى ممكن من الثقة بوجودها، حتى لو تواجدت فعلاً. ولايمكن بأي حال من الأحوال رفع مستوى ثقتنا بوجودها من عدمه حتى إلى مستوى ثقتنا بوجود أشياء ثبتت بالفحص العيني فقط، وهو أخفض مستويات التحقق، ناهيك عن المستوى الرفيع للتلسكوب أو المجهر أو التفاعل الكيميائي. فمهما كثرت الروايات واشتد تأكيد النصوص المقدسة على وجودها، فلن ترتقي درجة الثقة بوجودها، أبداً ومطلقاً، إلى درجة الفحص التجريبي. وسيظل إحتمال وجودها منخفض إلى درجة الصفر، وفي محل للشك في أفضل الأحوال، دائماً ... مالم تثبته التجربة أو على الأقل المشاهدة.

 و"حقيقة" وجود الملائكة مثلاً، حيث لايمكن حتى رؤيتهم، لايمكن وصفها بـ "حقيقة" بدون الحصول على معلومات، تجريبية أو عينية تؤكد هذه الـ "حقيقة" المزعومة. فـ"حقيقة" وجود الماورائيات بجميع أنماطها إذاً، لاتغدو عن كونها "حقيقة" مكتسبة بالإيمان الأعمى، بكل ماتعنيه الكلمة من معنى ...

وهذا مايؤكده المؤمن بدون وعي، كلما أراد تجربة بالطو أو أكلة.

* * * * * * * * * *

ليست هناك تعليقات: